الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

أحداث من صفحات التاريخ .كيف قامت المخابرات الأمريكية بتغيير الأنظمة؟ حكومة مصدّق نموذجاً . مقال يستحق القراءة . عرض بابكر الأمين .


كانت إيران منذ عام 1925 تحت حكم رضا خان الذي نصّب نفسه شاهاً. ثمّ خلفه إبنه الشاه رضا بهلوي في الأربعينيات من القرن الماضي. وكانت بريطانيا في تلك الحقبة تحتكر إكتشاف وتكرير وتسويق النفط الإيراني عبر شركة النفط الأنكلو- إيرانية التي كانت معظم أسهمها تمتلكها الحكومة البريطانية. وقد كان نصيب إيران من إيرادات النفط أقل مما تدفعه تلك الشركة للحكومة البريطانية من ضرائب. وكان عائد بريطانيا من إستغلال النفط الإيراني قد بلغ في عام 1950 أكثر مما حصلت عليه إيران خلال نصف قرن من فوائد نفطها.
وفي عام 1951 تمّ إنتخاب محمد مصدّق رئيساً للوزراء في إنتخابات حرة ونزيهة. وقد عمل مصدّق على رفض الهيمنة البريطانية على صناعة النفط، وطرح مشروع قانون بتأميمها على البرلمان (المجلس) وتمت إجازته من قبل المجلس عام 1951. وقد وجد هذا القانون ورئيس الوزراء شعبية فائقــة لأنه كان سيعمل على رفع المعاناة عن كاهل الإيرانيـــين بالتنمية وتحسين الخدمات. وكان مصدّق أول زعيم يتحدى الهيمنة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط ويحظى بتلك الشعبية لذا فقد كان رجل جريدة 'التايمز' لعام 1952 التي أطلقت عليه 'جورج واشنطن الإيراني'.
وقبل إقدام مصدّق على التأميم إقترح على بريطانيا إقتسام فوائد النفط بنسبة 50 في المائة لكل من إيران وبريطانيا، إلا أن بريطانيا رفضت هذا العرض. إضطر ذلك مصدّق لإعلان التأميم وإستدل بتأميم بريطانيا لصناعة الفحم والصلب. لجأت الحكومة البريطانية في الأول إلى مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية لإلغاء التأميم بحجة أن إيران قد نقضت الإتفاقية، إلا أنها فشلت في ذلك. وفرضت بريطانيا حصاراً إقتصادياً على إيران. ثم عملت المخابرات البريطانية في طهران على زعزعة النظام ليتسنى تغييره. ولما أدرك مصدّق ذلك طرد البعثة الدبلوماسية البريطانية في بلاده عام 1952. وبما أن المخابرات البريطانية قد فقدت موطىء قدمها في إيران بعد طرد بعثتها، فقد لجأت بعد ذلك إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتغيير نظام مصدّق.
أدرك تشرشل أن تأميم النفط لا يمكن أن يكون حجة مقنعة لإزاحة مصدق لدى الأمريكان، لذا لجأ إلى الصاق تهمة الشيوعية به، علماً بأنه لم يكن لديه وزيراً واحداً من الشيوعيين في حكومته. ترددت الإدارة الأمريكية في الأول واّثرت إستعمال الدبلوماسية، إلا أنه تمت الموافقة بعد وصول ايزنهاور للادارة عام 1953. ولم تكن أمريكا لتجرؤ على تغيير نظام مصدّق بالغزو المباشر لان إيران لها حدود مع الإتحاد السوفييتي الذي كان في أوج قوته بعد الحرب العالمية الثانية تحت زعامة ستالين.
لذا لجأت للتغيير غير المباشر رغم إعتراض السفير الأمريكي في طهران الذي ذكر بأن مصدّق يحظى بشعبية تبلغ 95 في المائة. صدّق تشرشل وايزنهاور على العملية التي أُوكلت إلى السي اّي ايه والإس اّي إس (المخابرات البريطانية). واّلت رئاسة العملية إلى كيرمت روزفلت المسؤول عن قسم الشرق الأدنى وأفريقيا في وكالة المخابرات الأمريكية، ورُصدت لها ميزانية تبلغ مليون دولار. ومما سهل من العملية أن مدير المخابرات الأمريكية كان شقيق وزير الخارجية دالاس.
كانت الخطة تهدف إلى إقناع الشاه - والذي يبيح له الدستور تسمية رئيس الوزراء - إلى إصدار ثلاثة قرارات ملكية. يقضي الأول بإقالة مصدّق، والثاني بتعيين رئيس وزراء يوافق عليه الأمريكان، والثالث بخضوع الجيش للبلاط البهلوي. وحسب الخطة فإن الضغط على الشاه سيتم من خلال شقيقته إشراف بهلوي - التي تمت رشوتها - والجنرال الأمريكي نورمان سجارزكبف.
في الأول تردّد الشاه في الإقدام على تلك الخطوات لأنه كان يشك في ولاء الجيش له، إلا أن عملاء السي اّي ايه واصلوا الضغط عليه طيلة شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) عام 1953، وأكدوا له بأن بريطانيا وأمريكا تؤيدان تغيير مصدّق. وحذّره العملاء بأنه إن لم يوقع على تلك القرارات فإن عرشه سيزول ويستولي الشيوعيون على الحكم. إضطر الشاه للتوقيع ثمّ إنزوى خائفاً من اّثارها في أحد منتجعاته على ساحل بحر قزوين.
أرسلت وحدة بقيادة كولونيل لإعتقال رئيس الوزراء في منزله ليلاً، إلا أنه قد تمّ إعتقالها. وفي فجر اليوم التالي أعلنت السلطات أنها قد إكتشفت المؤامرة وأذاع راديو طهران بأنها تمت بمساعدة خارجية. بعد سماع الأنباء هرب الشاه إلى بغداد ومنها إلى روما.
في تلك الأثناء تمّ توجيه الإعلام الإمريكي والبريطاني لإثارة حملة ضد مصدّق فقالت 'التايمز': 'إن إنتخابه كان أسوأ كارثة للعالم المضاد للشيوعية منذ الزحف الأحمر الصيني في الأربعينيات'. ووصفته 'نيويوك تايمز' بالدكتاتور وشبّهته بستالين وهتلر. كما خرجت 'نيوزويك' بمانشيت مثير يقول بأن 'الشيوعيين يسيطرون على إيران'.
ثمّ تواصلت مساعي خطة الإنقلاب بصرف مبلغ مائة وخمسين ألف دولار لرشوة خطباء مساجد الذين وصفوا مصدّق بأنه يهودي وملحد وكافر. وكما تمّ شراء صحافيين لإثارة حملة تشكيك في مصدق. وقد أصدرت بعض الصحف كاركتيرات تصور مصدّق على أنه شاذ جنسياً. إلا أن مصدق كانت لديه قناعة مطلقة في الديمقراطية وحرية التعبير لذا رفض قهر الصحافة والحريات المدنية وخرق القانون. كما تمت رشوة نواب برلمانيين لسحب الثقة من رئيس الوزراء. ولما أدرك مصدّق ذلك، دعا لإستفتاء شعبي لحل البرلمان والدعوة لإنتخابات جديدة ونجح في ذلك الإستفتاء في آب (أغسطس) 1953.
وتم إستئجار عصابات شوارع بمبلغ خمسين ألف دولار لإثارة القلاقل والهجوم على منازل رجال الدين وتصوير الأمر كأنه حدث من مؤيدي مصدق. عملت تلك العصابات أيضاً على تحطيم المحال التجارية وضرب المارة وإطلاق النار على بعض المساجد. ولما أُرسلت وحدات الشرطة لحفظ النظام إنضمّ بعض ضباطها الذين تمّ شراؤهم للمتظاهرين. وتمّ إحراق دور الصحف المؤيدة للحكومة ووزارة الخارجية وقيادة الشرطة وراديو طهران.
وقد تمّ إرسال وحدة جيش مزودة بدبابات لإعتقال مصدّق إلا أن حرسه قد أبدى مقاومة سقط خلالها العشرات من الجانبين مما إضطر مصدق لتسليم نفسه. ثم أُحرق منزله بعد أن سُرقت محتوياته وأثاثه. وقد كان مصدق الحاصل على دكتوراه في القانون من إحدى جامعات أوروبا أكثر إيماناً بالديمقراطية من بريطانيا وأمريكا. وذلك لأن حزب تودة عندما تأكد من المؤامرة ضد النظام عرض عليه تسليح كوادره للدفاع عن الديمقراطية ولكنه رفض.
وقد اختير البديل الجنرال المتقاعد فضل الله زاهدي الذي تلقى مبلغ 130,000 دولار. أعلن زاهدي من راديو طهران أنه رئيس الوزراء الشرعي حسب أمر الشاه ثمّ عاد الشاه لإيران. وبعد نجاح الإنقلاب، أمر الشاه بإعدام حسين فاطمي وزير الخارجية المؤيد لمصدّق، بالإضافة إلى إعدام العشرات من مؤيدي مصدّق من العسكريين وقادة الحركة الطلابية. وكان نصيب مصدّق السجن ثلاث سنوات ثمّ الإعتقال المنزلي في إحدى القرى حتى وفاته. وكانت هذه العملية أول تجربة للسي اّي ايه لتغيير نظام من اساسه، إذ كان معظم نشاطها ينحصر في رصد النشاط الشيوعي ودعم الأحزاب المناوئة للشيوعية في أوروبا.
وقد كان نصيب أمريكا من إزاحة مصدّق الحصول على 40 في المائة من أسهم شركة النفط الإيرانية القومية من جراء مجهودها في إزاحة مصدّق. وكان نصيب بريطانيا أيضاً 40 في المائة مما يعني أقل مما إقترحه مصدق قبل إقدامه على التأميم وهو 50 في المائة لبريطانيا.
وقد أدت إزاحة مصدّق إلى تغيير تاريخ إيران بتحطيم الأسس الديمقراطية بعد وصول الشاه، الذي أسس نظاما دكتاتوريا قمعيا بحماية جهاز السافاك الذي تلقى خبرة من الموساد الإسرائيلي. وقد أساء الشاه لمشاعر الإيرانيين الدينية إذ كان يقدم الخمر عند زيارة المسؤولين الغربيين له. وقد أدت سياسات الشاه لغرس بذور عداء الإيرانيين لنظامه لذا حظت ثورة الخميني عام 1979 بشعبية طاغية. وكان دعم الأمريكان للشاه قد تسبب في العداء الرسمي والشعبي لأمريكا كان من نتائجها إحتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران لمدة 444 يوماً. كما وجد شعار 'الموت لأمريكا' شعبية في إيران .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق